التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مقالات













عذرًا أيتها النساء .. حقكن مسلوب


« نبذ وإقصاء وعقاب على جريمة معملتهاش » بتلك العبارة وصفت ياسمين خليل البالغة من عمري 36 عاما تجربتها مع الإجهاض في التقرير الصادر عن حملة "أوقفوا القهر" المعنية بحق النساء في الإجهاض الآمن، وهي حملة حقوقية مصرية. المهم أن التجربة العملية تؤكد بامتياز التمييز على أساس النوع الاجتماعي  الذي بات مفردة يمارسها المجتمع باعتبارها أحد الأمور الطبيعية والمنطقية لحياته اليومية.
تكريس التمييز مربوط في ذيل عصور طويلة يجرها نظام بطريركي  يعمل بدأب على ترسخ للتميز والاستغلال للنساء بعد أن أصبح أسيرا لمفاهيم اقتصادية واجتماعية وسياسية تتسارع من أجل المزيد من الاستغلال كنتيجة مباشرة لتسارع عجلة العولمة وبرامج التكيف الهيكلي وسط أزمات اقتصادية طاحنة  تعزز أشكال الاستغلال للموارد البشرية والطبيعية بدعوى التصنيع والزراعة.
فالإجهاض الآمن رغم كونه جزءً لا يتجزأ من الحقوق الجنسية والإنجابية  للمرأة وفق ما أقرته منظمة الصحة العالمية والمواثيق الدولية لحقوق المرأة والتي من أبرزها بروتوكول حقوق المرأة في أفريقيا الملحق بالميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والمعروف باسم « بروتوكول مابوتو » والذي لم توقع عليه مصر حتى الآن ، يضعنا أما معضلة تجريم الإجهاض بقانون العقوبات المصري الذي جرم كافة أشكال الإجهاض ولم يرع أو يستثني أي أسباب صحية أو اجتماعية تدفع النساء إلى إنهاء حمل غير مرغوب فيه  ويتجلى ذلك بالمواد 261 حتى 264 والتي تصل  العقوبة بها إلى السجن المشدد لكل من ساعد امرأة على إسقاط حملها بأي شكل من الإشكال فببساطة نجد أن قانون العقوبات ميز بين الإناث والذكور عندما حرم النساء من احد حقوقهن في الصحة الجنسية والإنجابية.



للقصة وجه قديم: صناعة القانون الذي تم إصداره في يوليو 1937 في عهد الملك فارق الأول لعبت الدول الاستعمارية ( انجلترا ، وفرنسا ، وايطاليا ) دوراً مركزياً لتقنينه على المستوى الاجتماعي ، والاقتصادي ، والسياسي ، والثقافي ، والقانوني  ليس في مصر فقط ولكن داخل المستعمرات في إفريقيا ، والشرق الأوسط ، واسيا ، بقوانين جرمت حق النساء في الإجهاض ، والتي بررته تلك الدول فيما بعد بان الهدف منه حين ذلك كان حماية النساء من الموت ، نتيجة ممارسة الإجهاض غير مأمون وغياب مفاهيم طبية سليمة عن الإجهاض، ولكن الواقع كان له كلمة أخرى فالدول الاستعمارية كانت في حاجة بالغة لاستثمار القوى البشرية لدعم اقتصادها المنهك من الحرب العالمية ، واحتياجها الشديد لاستغلال قوة العمل لمستعمراتها سوء إثناء الحرب أو ما بعد ذلك في مرحلة إعادة الأعمار، شاركها في صنع تلك القوانين القوى الأصولية داخل المستعمرات التي كانت تعتبر تكبيل استقلالية النساء والاعتراف بحقوقهن جزء من مواجهاتها للأنظمة الحاكمة ، والتي كانت ترى هي الأخرى في النساء الحلقة الأضعف التي يمكن استغلالها وتقديم خطابات سياسية متناقضة بشأنهن عن الحاجة.
الأطراف الثلاثة وورثتهم من النظام الأبوي توحدوا على أرضية واحدة: "التمييز الممارس ضد النساء استراتيجية من أجل الاستغلال والحفاظ على مكونات النظام وأدواته".
يظهر هذا بوضوح في المفاهيم التي ترسخت عبر عقود طويلة بالثقافة المجتمعية استخدمت فيها كافة الأدوات والإجراءات  القانونية والسياسية والاقتصادية  لتعزيز التمييز والاستغلال الموجه ضد المرأة . 
 منظور غائب: بين مفاهيم عدة متنوعة ومتشابكة كخيوط العنكبوت للتمييز والاستغلال يأتي المنظور الجنساني في مجال الصحة بمفاهيمه وإبعاده المتنوعة ليوضح بما لا يدع مجال للشك إستراتيجية التمييز ضد النساء ، ولكون المجال الصحي يشمل العديد من إشكال التمييز لذلك استهدف الصحة الجنسية بالأساس ، فالبرامج الصحية التي تضعها الدولة لتحسين صحة المواطنين لا  تعالج  الفروق بين الإناث والذكور  في المخاطر الصحية والمعلومات الصحية وبتالي الحصول على الخدمات الصحية تتناسب مع الاحتياجات المبنية على الاختلافات البيولوجية فيما بينهما فلا تتلقي الفتيات خاصة الفقيرات معلومات صحية تخص حياتهن الجنسية وسط نسبة أمية تصل إلى 50% بين إناث يتحملن فاتورة غياب المعلومات الخاصة بأجسادهن بداية من عدم الاعتراف بان الحيض " الدورة الشهرية " هي علة تستوجب الراحة وتلقي العلاج في بعض الأوقات وصولا إلى حماية أجسادهن من الإمراض والمخاطر الصحية التي يمكن أن تنتقل عبر الاتصال الجنسي بالشريك الذي لديه الحق بتعدد العلاقات الجنسية بشكل شرعي (الزواج ) أو القبول الاجتماعي لممارس الرجل الجنس خارج أطار مؤسسة الزواج  بل يعتبرها المجتمع جزء من خبرات المكتسبة للرجل قبل الزواج في العديد من الفئات داخل المجتمع ، بالإضافة إلى عجز النساء عن التفاوض حول الممارسات الجنسية المأمونة مع شركائهن هي عوامل التي تجعل من الصعب على النساء حماية أنفسهن من الأمراض المنقولة جنسيا ، كما تلعب السلطة المالية واتخاذ القرار الممنوح في أغلب الأوقات للرجل دورا مهمة في حرمان النساء من الحصول على خدمات صحية متساوية مع الرجال.
 ويمكنا الحديث عن الموروث الشعبي الذي يميز بين الذكور والإناث ، فالذكور لها النصيب الأكبر من الدعم والتأييد على حساب الأنثى التي يجب تقديمها للأطفال الذكور لكون رجل المستقبل أفضل من مثيلتها لدي الإناث. السلوك الاجتماعي السائد ينمّط المرأة كي تكون في مستوى أقل من الذكر.  واقع ومفردات باتت عجلة النظام الأبوي القديم /الجديد الذي يميّز ضد النساء. وفي هذا النظام الطاحن تكون المرأة مجبرة تارة على الإنجاب من اجل إنقاذ المجتمع خاصة بعد الحروب ومجبرة تارة أخرى لتنظيم النسل أو إيقافه لحماية للاقتصاد والتنمية المستدامة  في كل الأحوال تتحمل المرأة وحدها نتائج أزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يتعرض لها المجتمع
ماذا يجرى الآن؟: تلك الأوضاع التمييزية ضد النساء باتت أمرا مقلقا للغاية ففي يوليو 2017  صرح فريق الأمم المتحدة المعني بالتمييز ضد المرأة في القانون والممارسة عن قلقهم اتجاه حرمان النساء في اتخاذ القرارات المتعلقة بأجسادهن، وتلقي تعليم جنسي شامل حتى يمكنهن من التمتع بحقهن في الصحة الجنسية والإنجابية. "نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى حماية المبدأ الأساسي بأن جميع الحقوق عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة وعلى الرغم من هذا المبدأ غير القابل للكسر، الذي أيده إعلان فيينا بشأن حقوق الإنسان لعام 1993، فإننا نشهد جهودا من جانب الجماعات الأصولية لتقويض الأساس الذي يقوم عليه نظام حقوق الإنسان برمته.
وتستند بعض هذه الجهود إلى سوء استخدام الثقافة، بما في ذلك الدين والتقاليد، أو بشأن الادعاءات المتعلقة بسيادة الدول"  تلك التصريحات التي تعبر عن حال قانون العقوبات الذي ينتهك الدستور المصري والمواثيق الدولية ففي نفس القانون المادة 60 منه والتي نصّت على أنه " لا تسري أحكام القانون على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق المقرر بمقتضي الشريعة الإسلامية " وهو ما يعني ان تحديد ما هي الجريمة وطبيعة العقوبة الواجبة يجب أن تتطابق مع الشريعة الإسلامية وهو الأمر الذي يتنافى مع اعتبار الإجهاض جريمة.
  فالشريعة الإسلامية لم تحرم الإجهاض ولم تعتبره جريمة بشكل قاطع بدلالة الثبوت ولكن كل ما تم تناوله في هذا الأمر كانت اجتهادات  ، وهذا ما تم التأكيد عليه في  كتاب مطوّل "الموسوعة الجنائية الحديثة، للمستشار إيهاب عبد المطلب والذي ينقل فيها حكما هامًا ذي دلالات:  "قضت محكمة النقض المصرية برفض إباحة إجهاض الجنين الذي لم يتجاوز عمره أربعة أشهر رغم أن الشريعة الإسلامية تبيح ذلك، وأن المادة 60 من قانون العقوبات المصري تبيح ما تبيحه الشريعة، مقررة أن ما ورد عن الشريعة في هذا الخصوص ليس أصلاً ثابتًا في أدلتها المتفق عليها، وإنما هو اجتهاد للفقهاء انقسم حوله الرأي فيما بينهم".
 هذا الحكم الصادر عن محكمة النقض عام 1959 والذي أقر تجريم الإجهاض بالرغم من مخالفتها للشريعة الإسلامية هو تعبير صريح عن استراتيجية تعمل على ترسيخ التمييز على أساس النوع الاجتماعي من أجل فرض المزيد من الهيمنة والسيطرة على المجتمع.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مركز البيت العربى

مركز البيت العربى : مركز البيت العربي للبحوث والدراسات مؤسسة غير ربحية تعمل على إنتاج معرفي خاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان من اجل عدالة اجتماعية - اقتصادية يتمتع بها كافة المواطنين في مصر ومنطقة البحر المتوسط والقارة الإفريقية على قدم المساواة . ويري المركز أن قضايا المرأة والطفل والحريات العامة هي جزء لا يتجزأ من قضايا حقوق الإنسان الركيزة الأساسية لتنمية اجتماعية والاقتصادية للمواطنين وتهدف برامج المركز على تدعيم السياسات التشريعات لنشر العدالة والمساواة بين جميع المواطنين من خلال الأبحاث والدراسات المتعلقة بالظواهر الاجتماعية والاقتصادية خاصة المؤثر على النوع الاجتماعي